ينضوي تخصيص يوم من كل سنة ووسمه بـ”يوم المعلم” تحت سقف الاعتراف الثمين بدور المعلمين وتضحياتهم الجسام في حياة الشعوب، وفي خدمة رقيها الاجتماعي وتقدمها الحضاري. فبضل الجهود التي يبذلها المعلمون تهذب شخصية كل فرد ناشئ، وتوجه نحو معارج الفضيلة، وتنتف منها نوازع الضلال والانحراف. ويعني الاحتفال بهذا اليوم توجيه الأنظار إلى رفعة رسالة التربية والتعليم وتعظيمها وتقديسها ومنحها باب الأولوية. وهو مناسبة ترمي إلى إشعار المعلم بعظمة مسؤوليته، وحثه على تحسين تكوينه ذاتيا أو بمساعدة الآخرين، وتعزيز مستوى تدريبه، وتنقيح ذخيرة خبرته، وجعله يتطلع دوما إلى مسايرة المستجدات في تخصصه العلمي وفي بقية المواد التي ترتبط بعملية التعلم من كل جوانبها حتى يكون نظره نافذا إلى لباب المسائل التعليمية التي تعترضه.
المعلم هو من يغرس بذور حب الوطن في قلوب أبنائه وهي ما تزال غضة طرية، ويجندهم للدفاع عنه. وقد حفظ لنا التاريخ القولة الأرقى للقائد الألماني “بسمارك” التي صرّح بها عقب حرب السبعين ممتدحا معلم بلده ومفتخرا بمنجزه الكبير، وهي: (لقد غُلبت جارتنا ـ ويقصد فرنسا ـ بمعلم المدرسة). ومهما عظم وعلا تكريم المعلم تكريما ماديا فلا معنى له إذا لم يرفق ذلك بنظرات تبجيل واحترام مكسوة بالجلالة والمهابة يرمقه بها بقية أفراد المجتمع في كل يوم تقديرا لصنيعه. ولا يجوز أن ننسى بأن مسؤولية المعلم في أيامنا أمست أثقل وأشق. فمعلم اليوم وجب عليه أن يسعى إلى تنويع مصادر مكتسباته باستمرار، وأن يتعمق فيها وفق معايير تتناسب مع ثمار المخرجات المأمولة مما يؤهل المتعلمين ويعدّهم للعيش الأفضل ولممارسة أطوار حياتهم الفردية والجماعية ممارسة راقية وفي غير تعب ولا ضنك، ومجابهة مشكلاتها المعقدة والملتفة واقتراح حلول مريحة لها.
حتى وإن توافقت كثير من الدول على الاحتفال بـ”يوم المعلم” في الخامس أكتوبر من كل سنة إحياءً لذكرى توقيع التوصية المشتركة الصادرة عن منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 1966م المتعلقة بأوضاع المعلمين، فإن هذا التوافق لم ينل صفة الإلزام. فقد شذت دول عن هذا التاريخ، ورأت أن تحيي هذه المناسبة في يوم آخر، بما في ذلك بعض الدول العربية كمصر وفلسطين. وربطت الاحتفال بـ”يوم المعلم” بيوم خاص اختارته واستدعت مبررات اختيارها من أقباس صفحات تاريخها.
يلاحظ عندنا أن الاحتفال بـ”يوم المعلم” يسري سريانا محتشما في أجواء مغلوقة المنافذ، ولا يجري إحياؤه إلا في إطار الطقوس الرسمية المضيقة، ولا نلقى له امتدادا أو مشاركة من طرف الأسر إلا بقدر ضئيل، وقلما ترفع له بين الخلائق ذكرا محمودا، مما يعني أن النظرة إلى المعلم لم تعد محاطة بالتبجيل والتقدير، وإنما رانت عليها طبقات من الصدأ والكدر التي كادت أن تقرب النكران وتبعد العرفان وتطرد انطباعات الإكبار. وأنني أرى أن المعلمين أنفسهم قد ساهموا في هذا التحريف بعد أن تسببوا في تغيير شبكة العلاقات خاصة مع المتعلمين ومع أولياء أمورهم، وارتضوا تقديم الكسب المادي الزائل على حساب القيم المعنوية الخالدة، وهشموا العلاقة الروحية مع من يعلمونهم بمجرد أن انزلقوا في هاوية ما يسمى بـ”الدروس الخصوصية”. فقد أصاب المعلم كرامته وكرامة زملائه بخدش فادح وجرح نازف، وخرب بنيانها لما رضي بمد يده في بذاءة أعدمت عفته إلى جيوب الأولياء، وقبل بتشويش ميزانيات العائلات متوسطة الحال والفقيرة، ولم ينزعج من تحوله إلى أجير، ولم يقلقه انقلاب سلوكاته من المثالية إلى الانتهازية حتى أصبح مادة جاهزة لصناعة النكت التي تزدريه وتحتقره. ولم يتسبب معلمونا في تحطيم هذا العلاقة وقطع نموها، فحسب. وإنما جلبوا إلى التعليم “الطبقية” التي هدمت مبدأ “تكافؤ الفرص” أمام المتعلمين، وهو واحد من المبادئ الكبرى الذي تأسست عليه مدرستنا الوطنية.
يؤشر الخامس من شهر أكتوبر في الجزائر إلى أحداث سياسية طارئة زعزعت سكونها في سنة 1988م. وهي أحداث لم يعقد الإتفاق حول نتائجها التي نقلتنا من طور إلى طور آخر في الجانب السياسي خاصة. وأرى أن ربط إحياء “عيد المعلم” بهذا اليوم هو أحد الأسباب الإضافية التي غطت على هذه المناسبة ومنعتها من البروز حتى إعلاميا، وحجبت رمزيتها، وسرقت منها بريقها، وجعلت الحديث عن رسالة المعلم خافتا وغير مسموع. ومن أجل أن يمنح لإحتفالية “يوم المعلم” المعني المستحق، فإنني اقترح أن ينقل إحياؤه إلى اليوم السادس من أكتوبر من كل سنة بدل الخامس من نفس الشهر.
يؤرخ السادس من أكتوبر وطنيا إلى رحيل واحد من كبار المربين الجزائريين من ذوي الصيت والمكانة في فترة الاستعمار، والذي برز على مستوى التنظير للفعل التربوي والعمل على إصلاحه وتطويره، وتفوق في ظهوره كمرب حازم ومجدد في الفصول الدراسية، وهو المربي الكبير الشيخ عبد القادر المجّاوي (بتشديد حرف الجيم)رحمه الله، والملقب بـ”شيخ الجماعة” تقديرا لعلو كعبه في مجال العلم والتأليف والإرشاد التربوي، والذي خمدت أنفاسه الزكية في يوم السبت السادس أكتوبر من سنة 1914م بمدينة قسنطينة.
أرى أن ربط إحياء “يوم المعلم” بتاريخ وفاة الشيخ عبد القادر المجاوي سيكون، ومن جانب آخر، فرصة لربط اللحمة بين حلقات تاريخنا الثقافي الوطني المجيد، وجعل ناشئتنا تتعرف على اجتهادات أجدادها وتتعلق بها. كما أنه سيرفع من مكانة المعلم في شموخ وإباء بين أبناء المجتمع، وخاصة إن كان معلما رساليا، ولم يكن من بين من جرفتهم سيول الصدفة إلى التعليم. وأما أنفار المعلمين الذين أتعبوا المدرسة الوطنية وتطفلوا عليها واستنزفوها، فلا يشملهم الحديث؛ لأن التكريم هو صنو للعمل المتميز المتبوع بالتفاني، وأن الاعتراف لا يكون إلا لأصحاب الفضل.