لا يعنينا الخوض في الأحداث ولا الأسباب والمصالح التي تقف وراء ما وقع في الخامس أكتوبر 1988 بالجزائر والتي مازال يلفّها الغموض بقدر ما نريد أن نحلّل أهمّ إفرازات ذلك اليوم الذي شكّل أكبر منعطف عاشه الشعب الجزائري منذ الاستقلال وتفاعل معه وعاش آماله ومضاعفاته.
إن العجب ليعتري الإنسان حين يسمع اليوم من يرجعون سبب أزمة الجزائر الحالية إلى التطوّرات التي أعقبت 5 أكتوبر، وهم الذين كانوا يزعمون قبل توقيف المسار الديمقراطي أنّهم صانعوا ذلك اليوم وأصحاب الاختيارات السياسية التي نجمت عنه، وأقصد التغريبيين بالذات،
والحقيقة التي لا يماري فيها إلا جاحد مكابر هي أنّنا دخلنا بعد تلك الأحداث الأليمة تجربة ديمقراطية رائدة كانت تصلح نموذجا لكلّ البلدان العربية والإسلامية، تجربة كان أهمّ عنصر فيها (الحرية ) بأجمل وأوسع معانيها، فقد انعتق الناس سواء كانوا أفرادا أو اتجاهات سياسية أو ثقافية من الكبت المفروض عليهم وأصبحوا يعلنون الاختلاف ويعيشونه دون خوف على أرواحهم ، وتفجّرت الطاقات في وضح النهار وتخلّصت البلاد من رداء الزيف الذي كان يلفّها، وذاق الجزائريون طعم تلك القيمة الإنسانية العظيمة -الحرية- فنشطت الساحة الفكرية والسياسية والنقابية والإعلامية، وزالت الممنوعات، فخرجت أحزاب من السرية التي لازمتها منذ الاستقلال وتأسّست أخرى معبّرة عن كلّ الأطياف والمشارب، ورجع الساسة المنفيّون إلى الوطن وعبّرت الحركة البربرية عن طموحاتها علنا إلخ...
لكنّ أكبر تلك المكاسب على الإطلاق تتمثّل في السماح للتيار الإسلامي بالنشاط السياسي من جهة، وحرية الصحافة من جهة ثانية، فقد خرجت الجزائر بذلك من أسر كليشيهات الديمقراطية السائدة في العالم الثالث أي الديمقراطية الانتقائية وديمقراطية الواجهة، ومكّنت لهذا الاختيار الشجاع بإتاحة حرية التعبير للجميع، وهذه نعمة كبرى حسدنا عليها الناس في أكثر من بلد، لكن السنة الاجتماعية الخالدة فعلت فعلها إذ كلّما ازدادت نسبة الخير ارتفعت معها نسبة الشّر، وذلك حتى يتمّ الابتلاء والتمحيص، وهكذا فتح أكتوبر عهد الطعن العلني المباشر في الإسلام والعربية والتمرّد على القيم والأخلاق، فنشطت الحركات العلمانية المشبوهة خاصة من خلال الجمعيات النسوية النخبوية التي يمكن تلخيص هدفها في محاربة قانون الأسرة، وكسّرت الصحافة الفرنكوفونية ما تسمّيه طابوهات وممنوعات، فراجت أخبار الفواحش وصورها، ووجد التمرّد على الأخلاق تشجيعا يكاد يكون مباشرا من بعض الأطراف المتنفّذة في السلطة، فظهر على الساحة مصطلح الأمّهات العازبات، وأقيمت الدور والمهرجانات للأبناء غير الشرعيين، وصدر مرسوم يجيز التبنّي الذي حرّمته الشريعة، باختصار دارت المعركة سافرة بين المشروع الإسلامي والمشروع التغريبي ورأى الناس بوضوح مع من يقف الشعب وأين يضع أنصار الحلّ الدخيل، ويكفي أن المسيرة النسوية التي شهدتها الجزائر العاصمة في ديسمبر 1989 جمعت مئات الآلاف تلبية لنداء رابطة الدعوة الإسلامية، في حين لم يحضر مسيرة العلمانيات آنذاك سوى 3000 بين رجل وامرأة، وهو رقم أعطاه المنظّمون أنفسهم، ولا يخلو بالتالي من مبالغة وتضخيم، فإذا كان أكتوبر يعتبر نقمة في نظر المتشائمين لما أفرزه من مساس بمبادئ المجتمع وقيمه ومثله وأخلاقه إلاّ أنّه يكفيه خيرا ما أضفاه من وضوح على الساحة الوطنية إذ أزاح الزيف والغموض وبيّن للشعب ما تعجّ به بلاده من اختلافات واتجاهات.
أفليس ظهور التيارات الهدّامة إلى العلن خيرا من عملها في صمت قد يمكّن لها؟ نعم، يحزّ في النفس أن نقرأ –آنذاك- في الجرائد إعلانات للانضمام إلى المحافل الماسونية في الجزائر أو أن نطالع أخبارا عن الأنشطة التنصيرية في بعض مناطق البلاد، لكنّ العلم بذلك أفضل من الجهل به لأنه يوقظ الغيورين على الوطن ويشحذ همم أبناء الأمّة الأصلاء فيهبّون لدرء الفساد ووأد الفتنة في مهدها قبل أن يعمّ ضررها.
نؤكد مرة أخرى أن مكاسب 5 أكتوبر المتمثّلة أساسا في الحرية والديمقراطية لا تقدّر بثمن لأنها سمحت بإثبات إنسانية الإنسان الجزائري، ويكفي أن الحرية والشورى هما رئتا المجتمع الإسلامي وأمل المجتمع الإنساني، يعدّ تحقّقهما في أي قطر انتصارا للإنسانية وللإسلام الذي يعتبرهما من أهم مقاصده.
يعترض العلمانيون بما آلت إليه الأوضاع بعد هذه السنوات الدموية للعن التغييرات الجذرية التي أعقبت أكتوبر1988، وهنا لا بدّ من وقفة صريحة تعرّي بعض المواقف المنافقة أو الحاقدة التي كانت تنادي باتخاذ 5 أكتوبر يوما وطنيا أو عيدا للاستقلال، ثم انتقلت الآن إلى تحميله أسباب ما أصاب الجزائر، والحقيقة أن التيار التغريبي عرّته الديمقراطية وكشفت عن ضحالة أطروحاته وهامشيته في المجتمع فناصبها العداء وانقلب من مقدّس لأكتوبر إلى عدوّ لدود له، كما أن أصحاب الامتيازات المادية والمعنوية في ظلّ الحزب الواحد لم يفوّتوا فرصة المحنة التي عشناها –بكلّ أسف وأسى- واستغلّوها لإدانة الاختيار الديمقراطي والتعددية وحرية التعبير لا لشيء إلا لأن أكتوبر فضحهم وزعزع مراكزهم وهدّد مصالحهم، كما أن بعض الفصائل الإسلامية تنقم على ذلك التحوّل لأنها ألفت العمل الرتيب في الظل بعيدا عن المنافسة ووجود الاختلاف وضرورة المواجهة الفكرية، فكل هذه الاتجاهات تومئ منذ مدّة إلى أنّه لولا أكتوبر لما وصلنا إلى هذه الوضعية المزرية أمنيا وسياسيا واجتماعيا، والحقيقة أن هذا تزييف لا يصمد أمام التحليل النزيه، فأصول الأزمة لا ينبغي البحث عنها في ممارسة الديمقراطية وإنما في التحايل عليها والكيد لها ورفضها في الواقع، كيف لا وقد عاداها أكثر من تيار عندما بيّنت حجمهم الحقيقي –بالنسبة للبعض– وعندما بيّنت طبيعتهم الحقيقية –بالنسبة للبعض الآخر– فزعموا أنها مؤامرة للمساس بالجزائر واستقرارها، لكن التاريخ سيحمّل المسؤولية كاملة عن انحراف المسار الديمقراطي ثم توقيفه لأولئك الذين كانوا يسعون إلى الاستمرار في السلطة مهما كان الثمن، وكذلك أولئك الذين كانوا يستميتون في الوصول إليها مهما كان الثمن.
ولا بدّ أن يشهد المنصفون أنّ الخطاب المتشدّد الّذي تبنّاه فصيل إسلامي بالغ في حشر الدين في متاهات السياسة والصراع على السلطة قد كان له الأثر البالغ في الكيد للتجربة الديمقراطية، خاصة وأنّه أثار شرائع وأوساطا شديدة الحساسية من الإسلام تملك من وسائل التأثير سياسيا وإعلاميا ما لم يكن يملكه أصحاب هذا الخطاب المتصلّب، وهكذا ضاعت مكاسب أكتوبر بين من غرّتهم قوتهم الجماهيرية، ومن رفضوا توجّهات الساحة الشعبية، فلماذا نصرّ على تجريم 5 أكتوبر وهو إنما أفرز مفاهيم وممارسات إيجابية لم نرق نحن إلى المستوى الحضاري المطلوب للتعامل معها والمحافظة عليها؟، أم أنّ هناك من ضاع عقله أو أصابته المازوشية إلى درجة التلذّذ بزوال ذلك الحجم الكبير والجوّ الرائع من الحرية وبعودة آفات النظام السابق وأقلّها الأحادية التسطيحية ولغة الخشب؟
فهل نعي جميعا في يوم من الأيام أن سبب الردّة يكمن –إذا أردنا التلخيص– في آفة الإقصاء التي تعامل بها الأطراف المؤثّرون في الساحة السياسية والثقافية وأنّ ذلك ناتج عن الفقر في التربية الدينية والمدنية معا، ولهذا كان التيار الإسلامي الرشيد قد جنح بعد دستور 1989 إلى التحرّك من خلال العمل التربوي الفكري الاجتماعي حتى تتكوّن القاعدة الصلبة التي تتصّرف بالأخلاق الرفيعة ولا تقصي الرأي الآخر ولا تتعجّل قطف الثمار، لكنّ مزايدات بعض الأطراف اضطرّته إلى دخول المعترك السياسي متأخّرا حتى لا يغيب الاعتدال وحتى تحفظ صورة الإسلام في خضّم التخويف منه والتهديد به وحتّى يسهم في تجنيب البلاد المخاطر التي بدأت نذرها تظهر في الساحة.
ماذا بقي إذن من أكتوبر؟ لم يعد أكثر من ذكرى مؤلمة من جهة ومفعمة بالأمل من جهة أخرى عشنا في ظلالها أيّاما رائعة من الحرية والتعددية كان يمكن أن تفتح عهد حياة سياسية وثقافية سليمة ناجحة بعيدة عن الاستبداد والإرهاب الفكري، لكم ما العمل وقد حدث ما حدث؟ لا بدّ أن نعي الدروس ونستأنف عاجلا أو آجلا مسيرة الحياة الطبيعية التي يبنيها الجميع ويحتكمون فيها إلى إرادة الشعب الحرّة من غير وصاية فوقية خانقة ولا هيجان جماهيري منفلت.
الأستاذ : عبد العزيز كحيل