أخذت مدينة برج بوعريريج زخرفها، العلمي الأريج، فتزيّنت شوارعها، بصور ولافتات العلماء، وغصّت قاعة محاضراتها بمحبّي العلم من كلّ الأرجاء، وازدان حفلها البهيج بصفوة المفكّرين الأشّقاء. كان ذلك، بمناسبة عقد الملتقى الدّولي الثاني للشيخين الخالدين: العربي التّبسي، وأبو إسحاق إبراهيم اطفيّش، أيّام 10/11/12/شعبان 1437ه، الموافق لـ 18/19/20 ماي 2016م.
لقد عاشت هذه المدينة التاريخية العالية، والغالية، جوًا علميًا زاخرًا، -بهذه المناسبة- أعاد إلينا أيّام ملتقى الفكر الإسلامي العظيم. التحم في هذا اللّقاء، صفوة المفكرين العلماء، بصفوة المواطنين النّبلاء، فكان التشخيص والتمحيص لقضايا أمّتنا، وموقف العلماء العاملين بعلمهم، من أجل كشف غمّتنا، والتخفيف من أزمتنا.
تميّز ملتقى الشيخين الدولي الثاني هذه السنة بمجموعة من المزايا كلّها ساهمت في إنجاحه، ويمكن التذكير بأهمّها:
1- تلاحم الحاكم والمحكوم، وتعاونهما على إحداث المناخ الملائم، المادي والمعنوي، لإنجاح الملتقى.
2- جهود العلماء الحاضرين، القادمين من داخل الوطن وخارجه، بتكفلهم بقضايا الأمّة، وجهاد العاملين، وتنزيل ذلك كلّه على الواقع المعيش.
التحلّي بالمنهجية والموضوعية في عرض القضايا، بمستوى علمي راق، زاده تألّقًا وإشعاعًا، تعايش الجمهور الواعي، الذي سما بالنّقاش إلى المستوى العلمي الدولي المعهود في المحافل الدولية.
دقّة التنظيم، والتجنيد الحكيم لشباب جمعية العلماء، الذين قدّموا نموذجًا عاليًا في نكران الذّات، وتذليل كلّ الصعوبات.
إلى ذلك كلّه، يُضاف المناخ الرّبيعي الطبيعي، والحماس الشعبي الفيّاض البديعي.
كشف الأساتذة المحاضرون في هذا الملتقى عن رسالة العلماء الرّبانيين، وتضحياتهم من أجل التكفّل بقضايا أمّتهم، خصوصًا في مراحل الأزمات، واستلهموا ذلك كلّه من تاريخ حياة المحتفى بهما، كان لابدّ من ربط الجيل الصاعد بعلمائه، الماهدين، وإبراز النموذجية في جهادهم وتضحياتهم، وكم يحتاج –جيلنا الصّاعد- في جوّ معاناته في مرحلة الفسخ والمسخ، والسّلخ، ليستيقظ من سباته ويعود إلى ذاته، فيدرِك أنّ لذّة الحياة لا تكمن في تقليعة الشعر الغريبة، والانسلاب بنجوم الكرة الفاتنة المريبة، والوعي بأن قضية الوطن أمانة، عليه أن يضطلع بها، كما فعل الأوّلون من علمائه، وشهدائه، وأصلائِه.
فعندما نذكر السلسلة الذهبية للعلماء الماهدين، ندرِك أنّ هؤلاءِ قد عبّدوا طريق التحرير للعقول والحقول، فسقوا ذلك كلّه بمدادهم، ودمائهم، وعرقهم وأرقهم.
وإذا كنّا في الملتقى الدولي الأوّل للشيخين قد استلهمنا، دروسًا من البطولة والإباء، في حياة ابن باديس والإبراهيمي، وكيف استطاعا بعزمهما وحزمهما، إخصاب الأرض البور، وتمكين شعبنا من تجاوز أزمة الاستعمار، والعبور إلى شاطئ الجذل والحبور، فإنّنا في ملتقى الشيخين الثاني ببرج بوعريريج، قد أمطنا اللّثام على التضحيات الجسام، للتّبسي، باستشهاده، واطفيش بجهاده.
تبيّن لنا من خلال سيرة ومسيرة الرّجلين كيف أنّ العلم الفصيح، والتديّن الصحيح، وحبّ الوطن الصريح، ينأى بصاحبه عن كلّ عرقية حمقاء، وجهوية خرقاء، ومنهجية عمياء، وعصبية بلهاء. لينخرط كلية في عملية النهوض بوطنه، في شمولية لا مجال فيها للتحزبية، ولا للحميّة الجاهلية.
كان الشيخ العربي التبسّي، منخرطًا في قضية الإحياء الوطني حتى النّخاع، فما ضعُف، وما لان، ولا خان ولا استكان، فظلّ واقفًا، شامخًا، إلى أن استشهِد راضيًا مرضيًا.
وإذا كان قبره لا يزال مجهولاً، وتاريخ استشهاده مفصولا، فإنّ معنى تضحيته سيظلّ معلومًا، وموصولاً، ومفهومًا.
قدّم الشهيد العربي التبسي–إذن- دروسًا في الوطنية، والتديّن، والفداء، للأجيال الصّاعدة، مما يجعلها تنهل من ذاكرته الخصبة، وتقتدي بنموذجيته العجيبة.
وشبيه بالتبسي كان العالم الجليل الشيخ أبو إسحاق إبراهيم اطفيش، مثلاً آخر في الثبات، وتقديم التضحيات، فقد أبلى بلاءً حسنًا في سبيل الذّود عن الوطن، محتملاً في سبيل ذلك كلّ أنواع التّشريد، والوعيد، فما لان ولا خان، وإن كلّفه ذلك كلّه الإبعاد عن الدار، والموت في غربة الدّيار. مقدّمًا بذلك لأجيالنا الصّاعدة، درسًا آخر من دروس التضحية والفداء، والصبر على الأذى، وتحمّل عواقب الابتلاء.
لقد كان لأجيالنا، في شيخينا المحتفى بهما أسوة حسنة، لمن كان يرجو للوطن العزّة والفخار، ولشعبه السؤدد والازدهار.
هكذا إذن كان سير ملتقى الشيخين في برج بوعريرج، عاش الجميع جوًا ميّزه سمو الأداء العلمي، وعلّو الالتحام الشعبي، والتطلّع إلى مزيد من هذه الكنوز التي ظلّت مغمورة، ولآلئ في القفار والفيافي منثورة، ومعاني من العمل بالعلم، والالتزام بالوطنية مستورة.
إنّ ممّا خلص إليه العلماء الباحثون من هذا الملتقى الدولي الهام، هو الإشادة بمبادرة الإحياء السنوي لمبدأ الشيخين، والتأكيد على ضرورة عقد هذا الملتقى، والانتقال به عبر كامل أنحاء ولايات الوطن، وربط الأجيال بعلماء الأمّة الوطنيين المخلصين، والاستلهام من تضحياتهم، وجهادهم واستشهادهم.
كما أكدّوا على ضرورة إحداث جائزة سنوية يطلق عليها جائزة الشيخين من شأنها أن تسهِم في التعريف بقوافل علمائنا المجاهدين الصديقين، والشّهداء الصالحين المصلحين.
ونعتقد أنّ هذا النّجاح الذي يحقق لملتقى الشيخين الثاني، هذه السنة ببرج بوعريريج كما كان الحال في السنة الماضية بالعاصمة، أنّ هذا النّجاح، ما كان ليتّم، وبهذا المستوى من التميّز، لولا عزائم شحذت، وطاقات جُنّدت، وإمكانيات سُخرَت.
وإنّ الفضل –بعد الله في كلّ هذا- إنّما يعود لشعبة جمعية العلماء بالبرج التي تميّزت بالرصانة، والحكمة، ودقّة التنظيم، وحسن التجنيد، ساعدها في ذلك أبناء الجمعية في مختلف المستويات، ولا سيما أعضاء المكتب الوطني.
ندعو الله للجميع بالثبات، ومزيد من الوفاء للعلماء حتّى نكون خير خلف لخير سلف.
الدكتور عبد الرزاق قسوم