كان إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة من تلاميذ الإمام مالك،و روى عنه و عن حماد بن زيد كثيرًا من الأحاديث،رضى الله عن الجميع.و قد أسلم"المُغيرة"جد إسماعيل،على يد اليمان الجعفى،فنسبوه إليه،فكان يُقال له:إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة الجعفى.و لم تكن زوجة إسماعيل بأقل منه صلاحًا،بل ثبتت لها كرامة تواتر ذكرها فى كتب المُؤرّخين،و هى أن طفلها الصغير-محمدا-فقد بصره،فدعت الله تعالى أن يرده عليه،و ذات ليلة أتاها أبونا إبراهيم صلى الله عليه و سلم،فى المنام،و بشّرها بأن الله تعالى قد استجاب لكثرة دعائها،و استيقظت لتجد الغلام مُبصرًا بقدرة الله و حوله و قوته.و بعد وفاة زوجها حرصت على تعليم الصبى،فأرسلته إلى مكتب التحفيظ ببلدها بخارى-مدينة تقع الآن فى جمهورية أوزبكستان بآسيا الوسطى-و هناك أتم محمد حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ العاشرة من عمره. و لأن"كُل مُيسّر لما خُلق له"كما أخبر النبى صلى الله عليه و سلم،فى حديث رواه البخارى نفسه.
فقد ظهرت عليه علامات النبوغ المُبكّر،و رزقه الله تعالى ذاكرة حديدية نادرة، وألهمه حفظ الأحاديث النبوية الشريفة،فلزم مجالس المُحدّثين،وأخذ عنهم كل ما فى جعبتهم،و كان يحفظ من الأحاديث الشريفة فى أيام ما يستغرق غيره فى حفظه شهورا و سنوات،و لا يكتب عند شيوخه،بل يسمع منهم مرة واحدة،فيحفظ ما سمعه فورا عن ظهر قلب،و يكتب رفاقه،ثم يُراجعون و يُصحّحون ما كتبوا على ما حفظ البخارى.وكان ينظر فى أى كتاب مرة واحدة،فيحفظه فورًا لا يُسقط منه كلمة ! و من العجائب التى وقعت للنابغة الصغير أنه ردّ على أحد شيوخه الكبار،و صحّح له إسناد حديث،و كان -حينها-فى سن الحادية عشرة.و كان المُعلّم هو"الداخلى"أحد أئمة الحديث فى"بخارى"فى ذلك الوقت،فنهر الصغير،لكن محمدا لم يسكت،و قال لشيخه بشجاعة و ثبات:ارجع يا أستاذنا إلى الأصل المكتوب،إن كان عندك.و دخل الرجل منزله،و راجع النسخة المكتوبة،فوجد سلسلة رواة الحديث بالضبط كما قال تلميذه،فأثنى عليه،و دعا له..و من البشريات أيضا ما جرى له بمجلس أحد كبار علماء المنطقة،إذ سأل أحد الحاضرين الصبى عن عدد ما كتب فى ذلك اليوم من أحاديث نقلا عن شيخه،فأجاب البخارى:كتبت حديثين،فضحك بعضهم-و كأنه يحسبون ما كتب قليلا-فقال لهم الشيخ ذو البصيرة المُضيئة:"لا تضحكوا منه الآن،فلعلّه يضحك منكم يوما"و بالفعل أصبح البخارى أحد أعلام الإسلام،بينما لا يعرف أحد أسماء من ضحكوا منه فى صغره !..و كذلك توسّم فيه الإمام أبو حفص أحمد بن حفص الخير،و قال لمن حوله ذات مرّة –بعد انصراف البخارى-:"هذا شاب كيّس،أرجو أن يكون له صيت و ذكر"وبالفعل وقع ما أخبر به الرجل المُلهم! ودعا له أحد شيوخه -عبد الله بن منير- وهو من كبار الزاهدين الصالحين قائلا:"يا أبا عبد الله،جعلك الله زين هذه الأمة"و يرى الإمام الترمذي أن الله تعالى:"قد استجاب له فيه".ومن البشارات كذلك،أنه عندما دخل الصغير البخارى على المُحدّث الجليل سليمان بن حرب،نظر إليه طويلا،و قال لمن حوله:"هذا يكون له يوما صوت"..و صدقت فراسة العالم الربانى،فلم تمض إلا سنوات،حتى صار البخارى ملء السمع والبصر.
وقد زرع الله عشق العلم فى صدر الفتى فلم يبلغ 16سنة حتى كان قد حفظ كُتُب عبد الله بن المُبارك و وكيع بن الجَرّاح و غيرهما من كبار علماء السلف رضى الله عنهم أجمعين.
ومن تدبير الله للبخارى كذلك،أن أباه كان ميسور الحال،و ترك له مالا حلالا يكفي لتغطية نفقاته الضرورية،و بهذا تفرّغ لطلب العلم.و يُروى عن أبيه أنه قال قبل موته:لا أعلم فى مالى درهمًا واحدًا من حرام.و لعل الله تعالى قد بارك له فى ذريته بهذا.و عندما بلغ البخارى17 سنة خرج مع أمه وأخيه إلى مكة المُكرّمة،لأداء فريضة الحج،و لم يُهدر الفرصة السانحة لتلقّى العلم على أيدى فحول البلد الحرام،فبقى بها،و عاد أخوه بأمّه إلى بخارى.و خلال سنوات جمع رضى الله عنه ما لدى المكيين ثم ما عند علماء المدينة المُنوّرة من أحاديث النبى صلى الله عليه و سلم.و لم يكتف بهذا،فقد راح يتنقّل طوال عمره،بلا كَلَل أو مَلَل،فى سائر أنحاء العالم الإسلامى،كالعراق والشام و مصر و جميع بلاد ما وراء النهر،عالما و مُتعلّما.و يكفى أن نعلم أن عدد شيوخه قد تجاوز الألف،أى أنه قد اغترف من بحار كل علماء زمانه تقريبا.وأمّا تلاميذه الذين سمعوا منه مُباشرة،و كتبوا عنه فقد بلغوا عشرات،بل مئات الألوف من سائر البلدان،ثم نهلت الأمّة كلها من مؤلفاته إلى يومنا هذا..و كُل من يأتى بعده من أهل العلم إلى يوم القيامة،فهو من تلاميذه الذين يدينون له،بل الأُمّة كلها تدين له بالفضل.
وشاء الله تعالى أن يعرف الجميع فضل و علم البخارى فى كل مكان ارتحل إليه..و من ذلك أنه عندما دخل بغداد أراد العلماء هناك اختبار ذاكرته و كفاءته و علمه،فأمروا مائة من الرجال أن يسألوه عن مائة من الأحاديث،بعد تغيير أسماء الرواة،و قلب الأسانيد-سلسلة رواة الحديث-فاستمع إليهم بهدوء و صبر،و فى كل مرة يجيب على طارح الحديث:"لا أعرفه"فظن غير الراسخين أنهم قد نالوا منه،وأنه قد عجز أمامهم.لكن كبار الشيوخ أمروهم بالانتظار حتى يسمعوا منه بعد أن يفرغوا من عرض المائة حديث،و حدث ما توقّعه العقلاء،إذ راح البخارى يواجه السائلين واحدا تلو الآخر-بالترتيب- فقال للأول:أنت قلت كذا وكذا،والصواب هوأن هذا الحديث رواه فلان عن فلان عن فلان،وقال للثانى مثل ذلك..إلخ حتى فرغ من المائة،بدون أن يُخطىء فى كلمة أو اسم راو واحد،و راجع القوم الأحاديث المائة،فإذا هى كما رواها البخارى بالضبط،فأقرّوا له بالعلم والفضل.و يُعلّق الإمام ابن حجر العسقلانى على هذه الواقعة،مُبديا إعجابه الشديد بالعلّامة البخارى،و يُلاحظ أنه إذا كان لم ينس أحد رواة أو متون الأحاديث،فإن الأعجب من هذا أنه حفظ ما قاله كل واحد من الرجال المائة –فى دقائق-وأعاد ما قالوه له بالضبط بلا أدنى خطأ ! و يُروى أن هذه الواقعة تكرّرت أيضا فى"سمرقند"إحدى مدن ما وراء النهر-بآسيا الوسطى- و خرج الإمام العظيم من الامتحان أيضا بلا خطأ فى لفظ واحد،رضى الله عنه وأرضاه.
و من عجائب البخارى،أيضا،أنه قد بدأ التأليف مُبكّرًا جدًّا-فى سن الثامنة عشرة-و كان أول إنتاجه العلمى الغزير هو كتاب"قضايا الصحابة والتابعين"ثم موسوعته الهائلة"التاريخ"الذى كان يسهر لتأليفه عند قبر النبى صلى الله عليه و سلم بالمدينة المُنوّرة.و من مؤلفاته أيضا"تفسير القرآن الكريم"و"الأدب المفرد"و"خلق أفعال العباد"و غيرها.لكن أشهر ما جمعه وأخرجه للناس هو كتابه"الصحيح"الذى يضم أكثر من سبعة آلاف ومائتى حديث نبوى شريف..و سبب كتابة الصحيح أن البخارى كان يحضر مجلس الإمام العظيم إسحاق بن راهويه،فسمعه مرة يقول لتلاميذه"لو جمعتم أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم فى كتاب مختصر"و لم يلتقط الفكرة سوى أصغر الحاضرين،النابغة البخارى،الذى صمّم على جمع الأحاديث الصحيحة فى كتاب،و هو ما تحقّق بعد ذلك بسنوات طوال..و قد بدأ كتابته داخل البيت الحرام،و استكمله فى المسجد النبوى الشريف،واستغرق فى إنجازه 16 سنة كاملة،و راجعه عدة مرات.وروى أحد مُعاصريه أنه كان يستيقظ من نومه 20 أو 30 مرة ليلا،ليراجع إسناد حديث،أو يدوّن ملاحظات على إحدى الروايات،أو يضيف حكما فقهيا فى عنوان أحد الأبواب،أو يدوّن رأيا لصحابى أو تابعى..إلخ..ووصف كثير من العلماء صحيح البخارى بأنه:"أصح كتاب بعد القرآن الكريم"و استفاد به و منه معاصروه و من جاءوا بعده من أهل الحديث والتفسير والفقهاء والعلماء فى سائر الأنحاء،ثم جميع المسلمين إلى يوم القيامة.و كان رضى الله عنه لا يكتب حديثا سمعه من شيوخه إلا بعد أن يتوضأ و يصلى ركعتين،و يستخير الله تعالى،و يتأكّد من صحة رواية الحديث.و لا يروى البخارى إلا عن أهل التقوى والصلاح والصدق والعلم والدراية التامة،فضلا عن الضبط و حضور الذهن و تمام العقل.و كان يشترط أن يكون الراوى قد عاصر شيخه الذى أخذ الحديث عنه،وأن يكون قد قابله شخصيا،ليتأكّد من أنه قد تلقّى هذا الحديث منه مُباشرة و ليس بواسطة.و كل هذا جعل من صحيح البخارى أهم دواوين السُنّة المُطهّرة،وأصحّها على الإطلاق.و من الغريب أن قلة من العلماء يُقدّمون عليه"صحيح مسلم"مع أن مسلما يكتفى بشرط أن يُعاصر الراوى شيخه الذى روى عنه الحديث،و لا يشترط اللقاء بينهما فعلا-كالبخارى- و هذا يعنى أن إسناد أحاديث البخارى أقوى وأصَحّ،و فى كُلِ خير..و قال الإمام الدارقطنى:"لولا البخارى ما راح مسلم و لا جاء".و قد عرض الإمام البخارى كتابه-الصحيح-على الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن المدينى والإمام يحيى بن معين و غيرهم فاستحسنوه،و شهدوا له بالصِحّة،إلا أربعة أحاديث قال الإمام العقيلى عنها:"و القول فيها قول البخارى"أى أنها صحيحة بدورها كما رأى البخارى.
و مع فضله وعلمه و صحة أحاديثه،كان الإمام مسلم نفسه من تلاميذ الإمام البخارى.و ثبت أن مسلما لقي البخارى يوما،فقبّل رأسه و يديه،و قال له،تواضعا واعترافا بعلمه و فضله:"دعنى أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين،و سيد المُحدّثين،و طبيب الحديث فى عِلَلِه"و قال له مرّة أخرى-بعد أن صحّح له البخارى إسناد حديث-:"لا يُبغضك إلّا حاسد،وأشهد أنه ليس فى الدنيا مثلك"و كذلك كان الباقون من مشاهير أصحاب دواوين السُنّة،كالترمذى وابن ماجه والنسائى والحاكم والبيهقى و من دونهم،من تلاميذ البخارى.بل ثبت أن كثيرا من شيوخه الذين علّموه،قد تعلّموا منه و نقلوا عنه لاحقا ما لم يكن عندهم من الأحاديث،و{ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} سورة الجمعة:4
وقال الإمام الحاكم:رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل-البخارى-فإنه
الذى ألّف الأصول،و بيّن للناس،و كل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه،كمسلم و غيره".
و لم يقتصر البخارى على الجهاد العلمى،و ما بذله فيه جهود هائلة،بل شارك أيضا فى الجهاد بالنفس والمال ضد أعداء الإسلام.و يقول معاصروه أنه كان راميًا ماهرًا،نادرًا ما يخطىء سهمه الهدف.
, و ذات يوم أصاب سهمه وتد قنطرة على نهر فكسره،فأرسل إلى صاحب القنطرة،طالبًا منه السماح له بإصلاحه على نفقته،و كان صاحبها من أهل العلم،فرد علي البخارى قائلًا:"بل القنطرة و جميع مالى فداء لك"ففرح البخارى بسماحة الرجل و عفوه،و تصدق بمئات الدراهم،وأملى على تلاميذه فى ذلك اليوم خمسمائة حديث...و كذلك بنى رِباطًا-قلاعًا و تحصينات-على حدود بلده-بخارى-من ماله الخاص،و شارك بنفسه فى بنائها.
و اجتمع عدد كبير من الناس لمعاونته فى البناء،و طلب منه بعضهم أن يستريح من العمل بيديه،فأبى إلا أن يحمل الطوب معهم،حتى لا يحرم نفسه من الثواب العظيم..و يُروى أنه أعد لهم طعامًا،و كان قد اشترى خبزًا قليلًا-بثلاثة دراهم،فأكل معه ما يزيد عن مائة من العمال حتى شبعوا،و بقى طعام كثير،و تلك كرامة ظاهرة..و كان رضى الله عنه مستجاب الدعوة،و قد عاين بنفسه استجابة الله تعالى له-فى الحال- فامتنع بعد ذلك عن طلب شىء من ربه –من حاجات الدنيا-خشية أن ينقص من حسناته.و من صفاته العطرة كذلك أنه كان يتجنّب الغيبة والنميمة تمامًا،حتى فى الوصف الضرورى لأحوال رواة الأحاديث-لبيان ما إذا كان الراوى صالحًا للنقل عنه أم لا-فقد كان البخارى يكتفى بقول عبارات غير جارحة،مثل"سكتوا عنه"أو"تركوا حديثه"أو"رماه فلان بالكذب"و فى هذا الوصف الأخير ليس هو من يتهم الرجل بالكذب،بل شخص آخر،و كل ما فعله البخارى هو إثبات هذا الوصف-للأمانة العلمية-فإنه لا يجوز كتمان حال الراوى بحجة تجنّب الغيبة،و هذه من حالات الضرورة،حتى لا ينخدع الناس بشخص غير أمين،فينقلوا عنه أكاذيبه،التى ينسبها إلى النبى صلى الله عليه و سلم،و فى هذا ما فيه من ضرر و بلاء عظيم.
و عن زهد الإمام حدّث و لا حرج.إذ كان مُكتفيًا معظم عمره بملابس بسيطة،و كان طعامه الخبز فقط لا غير.و كان يتصدّق بمعظم ما يأتيه من ثمار أرضه،و كثيرا ما كانت نقوده تفنى،فكان يأكل الحشائش،حتى لا يسأل أحدا شيئًا.و كان ربّه الأكرم يرسل إليه من يعطيه مالًا بلا طلب و لا سابق معرفة،و هى كرامة أخرى..و لم يعلم من حوله بزهده و تقشّفه،إلّا فى أواخر حياته،عندما فحص طبيب بوله،وأخبرهم أن هذا الإمام لا يتناول سوى الخبز،فألحّ تلاميذه عليه أن يأكل معه شيئًا،فأضاف قطعة من السكر إلى الخبز ! و هذا حال كُل عالم عامل،يشغله السعى إلى الآخرة،و طلب العلم و نشره عن حطام الدنيا الفانى.
و أمّا ثناء العلماء جيلا بعد جيل على الإمام البخارى،فلا سبيل إلى حصره فى كتاب واحد،و نكتفى بعرض بعض ما قالوه عنه. فقد قال أحد شيوخه-محمد بن سلام-:"كلما دخل علي هذا الصبي-البخارى-تحيّرت،وألتبس عليّ أمر الحديث وغيره.ولا أزال خائفا ما لم يخرج"و هذا دليل على عبقرية التلميذ،و رسوخه فى العلم،إلى درجة أن أستاذه يخشى أن يقع منه خطأ فى حضوره. .
و ذكر عمر بن مجاهد أنه كان عند محمد بن سلام،فقال له-بعد انصراف البخارى-:لو جئت قبل ذلك لرأيت صبيًا يحفظ سبعين ألف حديث،فخرجت في طلبه حتى لحقته،و سألته:أنت الذي يقول:إنى أحفظ سبعين ألف حديث ؟ فأجاب البخارى:"نعم،وأكثر.ولا أحدّثك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرّفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا و لي من ذلك أصل أحفظه حفظًا عن كتاب الله،وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم" .
و قال أبو إسحاق السرماري:من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه،فلينظر إلى محمد بن إسماعيل"البخارى"
وقال يحيى بن جعفر:لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل-البخارى-من عمري لفعلت،فإن موتي يكون موت رجل واحد،و موته ذهاب العلم .
و سُئل قتيبة عن طلاق السكران،فقال للسائل:هذا أحمد بن حنبل وابن المديني وابن راهويه قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البخارى-يقصد أن علم البخارى و فقهه يُساوى علم الثلاثة معًا-وكان مذهبه أنه إذا كان السكران مغلوب العقل - لا يذكر ما يحدث في سكره - فإنه لا يجوز عليه من أمره شيء .
و كان أهل المعرفة بنيسابور يرون أن البخارى أفقه من أستاذه إسحاق بن راهويه .
وقال عبدان:ما رأيت بعيني شابًا أبصر من هذا،وأشار بيده إلى محمد بن إسماعيل البخارى. .
وقال نعيم بن حماد أحد فحول العلماء:محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة. .
و قال مُسدد:" يا أهل خراسان،لا تختاروا على محمد بن إسماعيل أحدًا".
و لثقة الشيخ عبد الله بن يوسف فى تبحّر تلميذه البخاري،طلب منه مراجعة كتبه،و أن يُخبره بما فيها من سهو أو خطأ،ففعل رضى الله عنهم . و علم على بن المدينى-المُحدّث الكبير- بمقولة البخاري:"ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني"فقال علي لمن حوله:"دعوا هذا،فإن محمد بن إسماعيل-البخارى-لم ير مثل نفسه"أى لا نظير له.و كما نرى فإن كلاهما قد تواضع لصاحبه،و هذا شأن العلماء العاملين،فإنهم أكثر الناس أدبًا و تواضعًا.
و بلغ من تقدير عمرو بن علي الفلاس للبخارى أنه قال:"حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث"
وقال أبو مصعب الزهري:"محمد بن إسماعيل البخارى أفقه عندنا وأبصر -بالحديث-من أحمد بن حنبل،فقيل له :جاوزت الحد،فقال للرجل:لو أدركت مالكًا،و نظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل،لقلت : كلاهما واحد في الفقه والحديث .
بل قال عنه أستاذه إسحاق بن راهويه:"اكتبوا عن هذا الشاب -يعني البخاري - فلو كان في زمن الحسن-البصرى- لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه" .
و قال علي بن حجر:"أخرجت خراسان ثلاثة:أبو زرعة،ومحمد بن إسماعيل،وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي،و محمد-البخارى-عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم"و لا أعلم مثله. .
وكذلك قال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير:"ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل البخارى" .
و تكفى شهادة الإمام العظيم أحمد بن حنبل للبخارى،فقد روى ابنه عنه أنه قال:"ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.و قال الإمام أحمد أيضا:"انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان-بآسيا الوسطى-أبو زرعة الرازي، و محمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي"الدارمى"والحسن بن شجاع البلخي"
وكذلك شهد له الإمام بندار بن بشار بقوله:"ما قدم علينا مثل محمد بن إسماعيل،سيد الفقهاء".و قال مرجى بن رجاء:"البخاري آية من آيات الله تمشي على الأرض".
وأثنى الحسين بن حريث على البخاري قائلًا:"لا أعلم أني رأيت مثله،كأنه لم يُخْلَق إلا للحديث" .
و حكى أبو سهل الشافعي أنه دخل البصرة والشام والحجاز والكوفة،و رأى علماءها،و سمعهم،كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فَضّلُوه على أنفسهم". .و شهد قتيبة بن سعيد أن:"شباب خراسان أربعة،محمد بن إسماعيل،وعبد الله بن عبد الرحمن- الدارمي-و زكريا بن يحيى اللؤلؤي ، والحسن بن شجاع" .
وقال الإمام يعقوب بن إبراهيم الدورقي:"محمد بن إسماعيل البخارى فقيه هذه الأمة" .
وقال أبو جعفر المسندي:حفاظ زماننا ثلاثة،محمد بن إسماعيل البخارى،و حاشد بن إسماعيل،و يحيى بن سهل .
و وصفه الإمام الذهبى بقوله:"هو الإمام الحُجّة العلم الناقد المجتهد شيخ الإسلام قدوة الحفّاظ أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري،المُصنِّف للصحيح (الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) والتاريخ الكبير وكتاب الأدب المفرد وغير ذلك من التّواليف المهذّبة التي لم يُسبق إليها..وأما الصحيح،فهو أعلى ما وقع لنا من الكتب الستة في أول ما سمعت الحديث،و(لو رحل الرجلُ من مسيرة سنة لسماعِهِ لما فرّط) و هو أعلى الكتب الستة سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم،في شيء كثير من الأحاديث،وذلك لأن أبا عبد الله أسنُّ الجماعة،وأقدمهم لقيا للكبار-قدامى المُحدّثين-وأخذ عن جماعةٍ،يروي الأئمة الخمسة عنهم،و جزاهُ الله عن الإسلام خيرا,نِعْمَ ما ادَّخر لمَعادِه".انتهى.و وصفه الإمام ابن كثير قائلا:"الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه،والمقتدى به في أوانه،والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه،و كتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام،وأجمع العلماء على قبوله و صحة ما فيه،وكذلك سائر أهل الإسلام"و"قد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء، والشجاعة والسخاء،والورع والزهد في الدنيا دار الفناء،والرغبة في الآخرة دار البقاء".انتهى.
و رغم ما قدّم هذا الإمام العظيم لدينه وأُمّته،فقد ابتلى باضطهاد الحُكّام،و حسد الأقران ! و كأننا نتفنّن فى إيذاء أهل العلم والفضل فينا ! ففى أواخر حياته ذهب إلى مدينة"نيسابور"بإلحاح من أهلها،لينهلوا من علمه.و استقبلوه على مشارف المدينة،بحفاوة و تكريم لم يظفر بهما أحد قبله و لا بعده..وكان بيته بها يمتلىء عن آخره بألوف من طلبة العلم والحديث،فخلت مجالس باقى العلماء من التلاميذ،و أشعل هذا نار الغيرة والحسد فى نفس أحدهم،فاتهم البخارى بأنه يقول رأيًا مُبتدعًا،فى مسألة خلق القرآن التى فتن الحكام الناس بها فى ذلك الزمان.والحق أن البخارى رضى الله عنه لم يتجاوز الصواب فيها،فقد قال:"القرآن الكريم كلام الله تعالى و هو غير مخلوق"و هذا ما كان عليه العلماء سلفا عن خلف،إلّا من شَذّ و خالف إجماع أهل السُنّة والجماعة.و"أمّا أفعال العباد فهى مخلوقة".انتهى..و هذا هو الحق..فهناك فارق هائل بين القرآن ذاته،و هو كلام الله تعالى-فليس مخلوقا-و بين نطقنا و تلفّظنا به وأصواتنا فى تلاوته،فلا شك أن البشر وأفعالهم وألسنتهم و حركاتهم وأقوالهم مخلوقة مثلهم.لكن الحاسد أبى إلا إثارة الناس على الإمام البخارى،ليبعدهم عنه،و يخرجه من المدينة.و فى ردّه على أحد تلاميذه،كشف البخارى السبب الحقيقى فى هذا الاتهام الباطل له،إذ قال:"كم يعتري الرجل من الحسد في العلم،والعلم رزق الله يعطيه من يشاء"و ردّ على آخر بقول الله تعالى: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44] و دعا قائلا:" اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرًا و لا بطرًا و لا طلبًا للرياسة،و قد قصدني هذا الرجل [ يقصد الشخص الذى حسده و اتهمه بالباطل] حسدًا لما آتاني الله لا غير". ثم قال لمن حوله:"إني خارج غدًا لتتخلّصوا من حديثه لأجلي".و بالفعل غادر البخارى البلد فى هدوء،حتى لا يقتتل الناس بسببه.و لكن حاسده لم يتركه و شأنه،إذا أرسل إلى باقى البلدان،مُحرّضًا الجميع على البخارى،و مُردّدًا ذات الاتهامات الكاذبة ضده.و تسبّب هذا فى بلاء شديد للإمام العظيم،فقد طارده السفهاء والجهلة فى كل مكان ينزل به،حتى عاد إلى مسقط رأسه"بُخارى"لكنه لم يلبث فيها إلا قليلًا.فقد أرسل إليه الوالى،يطلب منه الحضور إلى قصره،ليُعلّمه وأولاده الحديث والفقه.و رفض الإمام العظيم أن يُذل العلم للسلاطين،أو أن يخص به قوما دون آخرين،وأرسى قاعدة خالدة هى أن الطالب عليه أن يسعى إلى العلم والمُعلّم،و ليس العكس.و غضب الحاكم،و أمر بطرد الإمام من بلده.و دعا عليه البخارى،فلم يمض شهر حتى عُزل من منصبه،وأُودِع السجن،و كذلك أصيب جميع من حرّضوا على البخارى أو اضطهدوه بأنواع شتى من العقوبات الإلهية،و لا عجب،فقد قال المولى عزّ و جلّ-فى حديث قدسى رواه البخارى نفسه-: (من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب). و خرج الإمام العظيم فى آخر الأمر إلى أقارب له بإحدى قرى سمرقند.و دعا ربه أن يقبضه إليه،بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت..واستجاب الله لوليّه و خادم سُنّة نبيّه،فرجعت النفس المُطمئنّة إلى ربّها بعد أسابيع..و شهدت جنازته أعداد هائلة من الناس،و فاحت من قبره رائحة زكية لم يشمّ أحد منهم مثلها،فكانوا يتنافسون على اقتناء بعض ترابه،واضطر تلاميذه إلى إقامة حواجز حوله،لمنع تجريف تربته..و يُروى أيضا أن أعمدة من نور خرجت من قبره عند دفنه..و نور علمه و بركته يُنير الطريق للسالكين، إلى يوم الدين.رضى الله عنه و أرضاه.
---------------
بعض المراجع
*ترجمة الإمام البخارى فى"سير أعلام النبلاء"للإمام الذهبى
*ترجمة الإمام البخارى فى كتاب"البداية و النهاية"للإمام ابن كثير
*مقدمة"فتح البارى بشرح صحيح البخارى"للإمام ابن حجر العسقلانى
*مقدمة"عمدة القارى فى شرح صحيح البخارى"للإمام بدر الدين العينى
*"مناقب البخارى"رسالة فى مناقب البخارى للإمام العيدروسى
*"مناقب البخارى"رسالة فى مناقب البخارى للإمام البكرى
بقلم حمدى شفيق
منقــول