تُظهر الدراسات التربوية أن العملية التعليمية التعلُّمية معقدة، وتحتاج إلى آليات كثيرة، وتنظيرات لطالما شغلت أوراق الكتب، والمجلات، وصفحات المواقع التربوية، والمدونات،... إلا أن الملاحظ أنه رغم كل التنزيلات، والبرامج في معظم الدول العربية والإسلامية، لا تزال هذه المنظومات - في بلداننا - تعاني مشاكل جمة، ومن ضمنها ما سنتكلم عنه في مقالنا هذا وهو ظاهرة نفور المتعلم من المدرسة، حيث سنحاول الوقوف على ما تيسر من الأسباب، وتجليات الظاهرة على الجانب الاجتماعي والاقتصادي، ثم سنعرض لبعض الحلول التي يمكن أن تساعدنا في تجاوز هذه الظاهرة التي لطالما عانت منها منظوماتنا التعليمية.
إن تعلق المتعلم بالمؤسسة التعليمية أمر ضروري ليتمكن من إنجاز التعلم في ظروف تربوية، حيث إنه قد يعاني أحياناً النفور من هذا الوسط لاعتبارات عديدة، منها أن يجد المدرسة وسطا جافاً بما تحمله الكلمة من معنى، أي أن المتعلم يكرر العمليات التي يقوم بها يومياً بنفس الظروف، والكيفيات، لدرجة أن تصير رتابة يومية تذهب معها الرغبة في التعلم، وهذا يؤدي آليا إلى احتقار هذه العملية على معنى المثل المشهور " العادة تولد الاحتقار " وهو ليس احتقاراً بالمعنى الذي نعرفه، أي أنها تصير عادة بالنسبة إليه لا رسالة يجب أن يتعلمها ليعلمها، والمعلوم أن الشيء المعاش يومياً وبنفس الطريق لا يثير الانتباه، هذا وما يعايشه المتعلم من ظروف اجتماعية التي قد تساهم في حرمانه؛ مما يزيد الطين بلة،
فكيف سيتعلق بالمدرسة إذا كان لا يجد ما يرجوه من متعة التعلم فيها؟ إنه لمن الصعب أن يتحقق ذلك في ظل هذه الشروط، مما يولَّد لدى المتعلم الكره بشكل تدريجي إلى أن تتكرس لديه ما يمكن أن نسميه بـــ "عقدة المدرسة" وهذه العقدة ترافقه طيلة حياته؛ بحيث يستحيل معها تحقيق التعلم في أي وسط آخر؛ وذلك بسبب الحكم الذي سيُكرَّس لديه عن التعلم، ومن ثَم نكون قد فقدنا المتعلم وجدانياً، لتستحيل المراهنة على نجاح العملية، والمدرس بدوره يتحمل القسط الوفير من الأسباب؛ لأن المتعلم يرى في المدرس قدوة له، وهذا أمر ثابت عبر التاريخ، حيث يحاول تقليده في كل الأمر التي يقوم بها، فإن كان هذا المدرس عنيفاً، اتصف المتعلم بصفته هذه، وأبعدته، أما إن كان حليماً اتسم بخصلته هذه وعمل بها طيلة حياته، والمتعلم يريد دائماً من المدرس أباً مربياً، لا جلاداً يجلده كلما هَفا.
وتنويع طرائق التعلم بما يتناسب ورغبات المتعلمين لمن الأمور التي يمكن أن تساعدنا في تجنب مغادرة المتعلم لمقاعد الدراسة؛ لأنه إن وجد المتعة المرجوة إلى جانب الفائدة سيزيد تعلقه بالتعلم عموماً، وبالمدرس والمدرسة خصوصاً، نضيف إلى هذا أن المتعلمين نتاج تربية أهاليهم، فلا يمكن لوم النتيجة أي المتعلم، لأننا نساهم جميعاً في تكريس العقدة بالأسباب.
إن نتيجة ما يمكن أن تؤدي إليه ظاهرة الهدر المدرسي لا يمكن حصرها على المتعلم فقط، بل يصبح هذا الإنسان حبةً ساهمنا في زرعها لتؤثر على كل الوسط، فإذا لم يتشبع بالقيم الإسلامية، والإنسانية، والاجتماعية ستكون النتيجة أن فقدنا إنساناً من مؤسسة المدرسة، ليتجه نحو مؤسسة الشارع أو المجتمع بتعبير آخر، وهنا سيجد ضالته، حيث إن هذه المؤسسة تعتمد وبشكل كبير على التعلم بالأقران، ولأن هذا الفرد سيبحث عن إثبات ذاته؛ فسيجد أن السبيل الوحيد هو الجريمة واتباع المحرمات، لأن في اعتقاده أنها ستبوئه المكانة التي فقدها في المؤسستين مؤسسة الأسرة والمدرسة، وغيرها من الظواهر السلبية التي يساهم في تكريسها ذلك الفراغ الوجداني الذي لم يتمكن المدرس والمدرسة من الاعتناء به وتطويره، خدمةً لشخصية المتعلم، أو تنميته بما يتناسب والقيم المذكورة.
إضافة إلى هذا فالحكومة ستكون قد خسرت فرداً ساهمت في تكوينه لسنوات عبثاً، وفقدت طاقات هي في غنًى عن فقدانها. وبالتالي فالنتائج ستكون كارثية اجتماعياً واقتصادية، بحيث سترتفع نسبة الجريمة، وترويج الممنوعات، إلى غير ذلك من الظواهر التي ستثقل كاهل الدولة بالمصاريف الإضافية، وهنا سنكون قد ساهمنا جميعا في تأزيم الأوضاع من حيث لا ندري.
فالاستماع الجيد لمشاكل هذا المتعلم، وتلبية رغباته بما يتناسب وأداء الرسالة من المطالب الملحة التي يمكنها أن تساعده في التعلم، حيث إن توفير المناخ الملائم له بعد أن عانى ضغوطات في أسرته، ومجتمعه، أمر ضروري، لأنه بطبعه لا يمكن أن يتعايش ووسط جاف، لتبقى المدرسة أمله الوحيد، فعوض أن يجد فيها جلادين، يجب أن يَلقى آباء يستمعون له، ويساعدونه، ويوجهونه.
ومن خلال التجربة المتواضعة وجدت أن أفضل حل هو التواصل، لأن المتعلم يثق في مدرسيه الذين يتواصلون معه بشكل كبير خلافاً للذين لا يتواصلون معه. كما أن الحركية التي يجب أن تتسم بها الحياة المدرسية لأمر ضروري ليكون الوسط التربوي وسطاً ملائماً للتعلم. إن تضافر الجهود بين مختلف المتدخلين في الشأن التربوي، أصبح مطلباً ملحاً للنهوض بالعملية التعليمية التعلمية، وتفعيل النوادي المدرسية، والخلايا مثل خلية اليقظة ذات الأهداف الاجتماعية من الأمور التي قد تساعدنا كثيراً في تجاوز هذه الظاهر التي أصبحت تعاني منها المدرسة لما لها من دور كبير في تنمية ذكاءات المتعلم، وتوجيه رغباته بما يخدم الإنسانية، ثم إننا إذا فعلناها سنصرف الطاقة الإضافية لهؤلاء المتعلمين بما يتناسب والقيم المنشودة، وبما يضمن مجتمعاً سليماً، خالياً من الظواهر السلبية. فلنساهم جميعاً في صناعة جيل يؤمن بالقيم قيم التسامح، والتعايش، والتضامن، واحترام الآخر.
محمد مرزاق
منقـــــــــــول