من ضوابط الإنكار في مسائل الخلاف
المجيب: د. سلمان فهد العودة
السؤال: ما السلوك الصحيح في مسائل الإنكار؟ وخصوصاً في المسائل الخلافية؟
الجواب: الإنكار من الأمور المهمة لإصلاح المجتمعات، والخلاف أمر حتمي في حياة الأمة إما لاختلاف الأسس التي تستنبط في ضوئها الأحكام، أو لتفاوت المستويات العلمية في معرفة الحق واستظهاره، أو لاختلاف الملل والنحل.
قال الذهبي: ما زال الاختلاف بين الأئمة واقعاً في الفروع وبعض الأصول، مع اتفاق الكل على تعظيم الباري -جل جلاله-، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف.
وإنكار المنكرات المخالفة للشرع من الأمور الواجبة على من قدر على إنكارها "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" الآية،[آل عمران : 110.
ويشترط للإنكار شروط منها :
-1أن يكون المُنْكِرْ فقيهاً فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، فما اختصَّ بعلمه العلماء من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد، لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" الآية، [يوسف : 108].
2 -التحقق من وجود المنكر ووقوعه، وذلك عن طريق الرؤية أو العلم به، والأصل حسن الظن بالناس، لا اتهامهم ما لم يقم دليل على ذلك الاتهام .
3 -أن يحصل بالإنكارِ المعروفُ الذي يحبُّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله. والعلماء أجمعوا على ارتكاب أخف الضررين، وذلك إذا تعارضت المصالح والمفاسد، وتزاحمت الحسنات والسيئات فإنه يجب ترجيح الراجح منها ، والمعتبر في تقدير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة.
4 - الرفق في الإنكار فإن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. قال سفيان: "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال:
- رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى
- عدل بما يأمر، عدل بما ينهى
- عالم بما يأمر، عالم بما ينهى.
والناس محتاجون إلى مداراة ورفق، لا إلى عنف وغلظة. قال الهيثم بن جميل:" قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله، الرجل يكون عالماً بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت وإلا سكت".
5 - معرفة البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد الموروثة من حيث معرفة مقدار قبول الخطاب، ومن مقتضى معرفة ذلك حسن التصرف في التعامل مع الآخرين حيث يجب إنزال الناس منازلهم، فنصيحة الأمي غير نصيحة المتعلم، والمعاند غير خالي الذهن، وما يلزم ذكره للمجاهر يختلف عن غير المجاهر، ومن يتكرر منه الفعل، غير من فعل المنكر مرة واحدة. فلا بد من العلم بحال المأمور والمنهي، كما قال ابن تيمية -رحمه الله- .
6 - ولا يُنْكَرُ على الرأي الآخر إلا إذا خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه. ومن أخذ بقول ضعيف في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية فينكر عليه بالطريقة التي تناسب حال الفعل، وبما يؤدي إلى تحقيق الغرض من الإنكار. ومن أخذ بأخف القولين وأيسرهما فلا إنكار عليه، قال سفيان: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه". وقال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به.
فلا ينكر على المخالف في مسائل الخلاف. قال أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم. ومن اجتهد فأصاب فله أجران والمخطئ مـعـذور له أجر واحد على اجتهاده.
ولا يحل لمحتسب -وإن كان مجتهداً- أن يحمل الناس على قول خالفه فيه غيره من العلماء.
فلا بد من سلوك المنهج الصحيح في الإنكار؛ لأن مخالفته توجد التنافر بين الناس، والفتن، وتأثيم الناس، وحرمانهم من العلماء وعلمهم الذي يحملونه، وتشكيك الناس بالدين الصحيح والخوض فيما لا علم لهم به، فيكثر المفتون بغير علم، ويكثر المنكرون عن جهل، ومن نتائجه فساد النيات فلا تؤدى بنية التقرب إلى الله، والله المستعان.
نسأل الله لنا ولكم السداد في القول والعمل، والتوفيق في الدنيا والآخرة.