رسائل (طريفة وظريفة)
ت
بادلت رسائل - أعتز بها - مع زميل تكوين بقسنطينة توفي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
كان لغويا نحويا بامتياز، نلجأ إليه إذا ما صادفتنا عَقـَـبَة إعرابية، له شأن مع أستاذ اللغة العربية رحمهما الله.
كان كيّـسا فـَـطـِـنا حقا وكان ذا نكتة ودعابة، يسرد حفظا أو يولـّـد الحكايات الطريفة،
ويلقيها بأسلوب هزلي على الزملاء، فيرتاحون من عناء البحوث وإرهاق المراجعة.
بعد تخرجنا؛ بادرت وباغته بالكتابة كعادتي مع الذين عايشتهم وانسجمت أفكاري مع أفكارهم،
ورحت أستفزه ليتحداني ويجيبني مرغما .
وكان – رحمه الله- من الذين تشرّفت وسعدت بلقاء أمثالهم واستمرّ التراسل بيننا إلى أن غيّر عنوانه،
وصارت رسائلي تـُعاد إليّ بحجّة رحيل المعني إلى مكان مجهول، فانقطع التراسل منذ ذلك الحين
((يتميز أهل الجنوب بفـَذ ْلَكاتهم وإجادتهم فنّ إلقاء النكت وسماعها، وسرعة البديهة ومهارة تهيئة جوّ الدعابة والمرح،
كما يتميّـزون بقدرتهم اللغوية والشعرية والخطابية وحسن الإلقاء وإدارة النقاشات))
وكان المرحوم آية في هذه الميادين بلا منازع، طبعا هناك غيْرُه، ولكنه كان ألطفهم وأقدرهم على إيراد الطرفة.
إليكم ردّه على إحدى رسائلي أرجو أن ينال رضاكم، ولاحظوا قدرته العجيبة على توليد النكتة الظريفة.
أشير إلى أن الرموز التي بين أقواس هي أسماء للزملاء المفتشين لم أشأ البوح بها،
فاستبدلتها بحروف بين قوسين وهم في الحقيقة من أعزّ الأصدقاء، وشدّدوا ملاحظتكم حول الاسم الذي أخطأ في كتابته وهو: (ب/السعيد) واسمه الحقيقي(ب/محمدالرسالة رقم 1:
بسكرة يوم 24-7-1984 من (س/ب) إلى الزميل الكريم داود السعيد
لقد وصلتني رسالتك القيمة، وأشكرك على إطرائك لي وثنائك علـيّ وإعجابك بمواهبي،
وإن كنت أنا كما تعلم أعظم بكثير مما ذكرت وأشد ذكاء وعبقرية مما تعتقد،
ورغم هذا فإنني سأنظر إليك بعين العطف، وأمنحك شرفا بأن أعترف لك بمستواك الممتاز في الذكاء والعبقرية،
ولكنك رغم ذكائك فأنت أقلّ مني بكثير من حيث الذكاء، أستغفر الله؛ بل يجب ألاّ تحدثك نفسك بأن تقارن بيني وبينك،
وإنما المقارنة بينك وبين (ع/م) و(ح/ن) أو (ب/السعيد) و (م/س)، وإنني أردت أن أكتب لك رسالة آية في السحر والبيان،
والروعة والبلاغة؛ لكن حال دون ذلك شيآن:
أولهما: علوّ منزلتي كما تعلم، ونبوغي وعبقريتي في الأدب، فهذا العنصر حال دون كتابة هذه الروائع،
لأنني أسمى وأعلى من أن أكتب رسالة بليغة.
وثانيهما: الفرق الرهيب والبون الشاسع بين مستواي ومستواك،
بحيث إنني إذا تركت لعبقريتي العنان في الكتابة فلن تفهم شيئا مما أكتبه لك.
صدقني لقد جرّبت ذلك مرة وكتبت رسالة أدبية بليغة إلى أحد الزملاء،
وبعد كتابتها تلوتها على نفسي فلم أفهم منها شيئا، فقلت لنفسي:
إذا كنت أنا قد تساميت وتعاليت على نفسي، ولم أفهم ما كتبته أنا بنفسي، فكيف بزميلي محدود الذكاء، فلم أبعث له بتلك الرسالة.
وعرضتها على بعض الزملاء عساهم يُـفهموني محتواها، فعجزوا كلهم، فعرفت حينذاك أن العبقرية تتمـرّد أحيانا على صاحبها وتحتقر غباءه، وتنفصل عنه، ويتيه في ضباب العبقرية المعتوهة.
أخي وزميلي داود السعيد كل ما كتبته لك أعلاه للدردشة والتسلية، أما الجــد، فإن الزميلين: (ع/م) و ( ب/ السعيد)
بعثا لي برسالتين كل منهما يحملني تبليغ التحية إلى كل زميل أراسله دون تمييز،
ولذا أبلغك تحياتهما، وتحيات (خ/ش) وعليك برد الجواب
يـــا أخانا...... أعرب يا أخانا.
يـــا أخينا...... أعرب يا أخينا.
يـــا أخونا...... أعرب يا أخونا.
ومعذرة عن رداءة الخط لأنني كتبتها مستعجلا.
فرحت برسالته وكتبت له ردا أكثر استفزازا واستشاطة للغضب الإيجابي،
ولعل ظاهرة طغيان النسيان عليه جعلته يخطئ في اسم أحد أصدقائنا المدعو (محمد)
وهو غيّــر اسمه إلى (السعيد) فوبخته على قصر ذاكرته[من باب الاستفزاز ليس إلاّ] ووصمته
بكثير من الصفات التي تحجب عنه صفة الذكاء والنبوغ... اتخذت كثرة نسيانه مطية وحُجة لأبرهن
أنه ليس أهلا ليكون عبقريا لأن العبقري لا ينسى مهما عظمت أمامه الرزايا والمشقات.
ثم أكدت له بأني أفضل منه وإن شخصيتي ملأت سماءه وفكره وأن اسمي عشش في ذاكرته بدرجة أنه
لا يستطيع محوه أو نسيانه، ولذلك صار ينسى أسماء الأصدقاء ويستبدلها باسمي،
مما يؤكد أن سيطرة اسمي على عقله الباطني دلالة على تفوّقي،
وأن كل الحجج التي أتى بها على أفضليته ونبوغه وعلوّ شأنه غير صحيحة.
فكانت رسالته التالية مجلية للأمر مبررة للأسباب، ويزداد تمسكا بصفة العبقرية والنبوغ.الرسالة رقم 2:
بسكرة في 24-8-2011 من (س/ب) إلى الزميل الكريم داود السعيد
سلاما من رياح الجنوب أحــرّ*** وأشواق إليك بها يا داود أ ُقـرّ
وتحية من نسيـم الشمال أرق *** فأنت بها يا داود أحــــــــــــــقّ
إن أول وتالي وآخر ما لاحظته في رسالتك، لطافة النكتة، ورقة الأسلوب ودقة التعبير وموضوعية النقد النزيه.
ومن أطرف ما لفت انتباهي ملاحظتك بأني نسيت اسم أخينا (ب/محمد) وكتبت بدلا عنه (ب/السعيد)
فهذا يا أخي ليس نسيانا وإنما عمَدت إليه عمْدا أو قل تعمّدته تعمّدا، حتى أختبر مدى اهتمامك برسالتي،
وهناك احتمال آخر –وهو الأرجح- حيث سيطر اسمك الكريم على ذهني عندما كنت منهمكا في كتابة الرسالة إليك،
وهناك احتمال ثالث {وهو الأصح والأوكد} فعسى أن يكون بل من المؤكد أن اسمه السعيد،
ونسي هو هذا الاسم ولمّـا نسيَه عُـوض (بمحمد) وأنا أجزم وأصرّ أن اسمه [ب/ السعيد] بدل [ب/ محمد]
حتى ولو أصررتَ أنت وهو وأبوه وجميع أقاربه ومعارفه والبلدية وجميع الوثائق التي يملكها على أن اسمه[ب/ محمد]
فإنني أصر على يقيني بأن اسمه [ب/ السعيد] ودليلي القاطع وبرهاني الساطع على ذلك هو أنه :
لولا أن اسمه [ب/ السعيد] لما انزلق قلمي وكتب [ب/ السعيد] بدل [ب/محمد] كما تد ّعي أنت وجميع من ذكرتـُهم آنفا،
وهذا الأمر في الحقيقة بديهي لأنه لا يمكن أن أ ُكذ ّب نفسي وأصدّق الغير مهما كان هذا الغير.
وهاك يا داود البرهان المنطقي على صحة وصدق ما أقول:
(إن الانسان إذا اعتراه شك فيما يقوله هو نفسه، فكيف يتيقـّن ويطمئن إلى ما يقوله الآخرون).
وإن لم تقتنع يا صديقي فاسأل (ح/ن) ينبئك بالخبر اليقين.
أما باقي النقد الذي تضمنته رسالتك فإني أعتزّ به، وعذري الوحيد هو أن الرسالة السابقة قبل هذه،
كتبتها وأنا في مركز البريد ومستعجل في انتظار مكالمة هاتفية هامة (جدا جدا جدا) كما يقول أخونا....
أما ملاحظاتي وانطباعاتي حول رسالتك،
فإني عندما كنت أقرأ سطورها تحولت في يدي إلى داود السعيد بلحمه وشحمه ودمه وفكره،
وكلماتها نبرات صوته ترن في أذني، وتنقلني إلى جو المركز بما فيه من زملاء عمل وبحوث ...
تقبل تحيات إخوتك وزملائك فلان وفلان وفلان..... وختامهم أخوك داود السعيد
ولا تستغرب أن ترسل تحيتك لنفسك، لأن الإنسان أخو نفسه ويمكن أن يكون قبل نفسه {هكذا تقول الرياضيات الحديثة}.
انتهت الرسالة، ولا أدري إن كان ما أنقله في ركن المتقاعدين هذا ملفتا للنظر أم أنه لا يترك أي انطباع،
إذ لا يوجد تفاعل مع هذا الركن ! ، لا من المتقاعدين ولا من النشطين العاملين في الميدان.
المهم؛ - هذه رسائل زمان- أرجو أن يقرأها واحد ولو صدفة، وتنال إعجابه كما نالت إعجابي.
ودمتم في رعاية الله وحفظه.