الحمد لله القائل في كتابه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾[آل عمران:110]، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
وبعد: فإنَّ وجوه الخير في هذه الأمَّة كثيرةٌ متنوِّعة، ومن خيريَّتها عنايتُها بدِينها؛ ومظاهرُ عناية الأمَّة الإسلامية بالدِّين متنوِّعة أيضًا، تتجدَّد بتجدُّد المناسبات الدِّينيَّة ومواسم العبادة، ومن أهمِّ المناسبات الَّتي تمرُّ على المسلمين كلَّ عام دخولُ شهر رمضان الكريم بإهلال هلاله بالأمن والإيمان والسَّلامة والإسلام، يَعْتَنِي المسلمون برؤية هذا الهلال الَّذي جعله الله تعالى أَمَارةً لدخول هذا الشَّهر ووجوب صيامه؛ قال تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة:185]، قال ابن كثير في «تفسيره»: «هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشَّهر، أي كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيحٌ في بَدَنِه أن يصوم لا محالة»(1)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ ﷺ قال: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا...»(2) يعني الهلال.
ومن فضل الله تعالى على عباده وتيسيره عليهم ورفع الحرج عنهم أن جعل العبادات الَّتي تعتمد على المواقيت مرتبطة بالعلامات الظَّاهرة الَّتي يمكن لكلِّ مسلم جاهل أو عالم من أهل البادية أو الحاضرة أن يراها ويعلمها، لذا جعل رؤيةَ الهلال علامة دخول شهر رمضان وانتهائه، فيسَّر على كلِّ من أراد معرفة الشَّهر أن يراه بعينه المجرَّدة.
لذلك اعتنى أهلُ الإسلام على تباعد أقطارهم وأوطانهم منذ بعثة نبيِّنا ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بترائي هلالِ رمضان وترقُّبِه، يجمعهم في ذلك وحدةُ الدِّين والعقيدة، وامتثالُ أوامر الله ورسوله عليه الصَّلاة والسَّلام.
وهذه الرُّؤية يختلف فيها المسلمون بين مُثْبِتٍ ونافٍ، وكان اختلافهم ولا زال في الصَّوم والإفطار أمرًا دائرًا بينهم، من أسبابه في الزَّمن الأوَّل: تباعد الأقطار وصعوبة نقل الأخبار؛ إذ قد يُرى الهلال في بلد من بلاد المسلمين ويُبلِّغون من قدروا على تبليغهم الخبر اليقين، ولا يراه غيرهم لبُعدهم وعدم وصول خبر من رآه من غير أهل بلدهم، فيُصبح هؤلاء صائمين وأولئك مفطرين وكلُّهم على قلب رجل واحد؛ إذ لم يكن اختلافهم عن تعمُّد وناتجًا عن بغضاء وشحناء واختلاف آراء وسياسات، إنَّما بحسب ظهور الهلال وعدمه.
وفي العصور المتأخِّرة منَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ على الأمَّة الإسلامية بنِعمٍ لا يُحصيها إلَّا الله سبحانه من وسائل الاتِّصال بدءًا بالتِّلفون والرَّاديو، وانتهاءً اليوم بما نراه ونسمعه من آليَّات وتقنيَّات تكاد تجعل الأرض في محيط لا يتجاوز عرضه وطوله مترًا على متر.
ومع حرص المسلمين اليوم على ترائي الهلال وترقُّبه، إلَّا أنَّه ما أن يحلَّ وقتُ التَّبليغ والإعلام إلَّا رأيتَ العجب العُجاب من اختلاف كلمة المسلمين في البلد الواحد، هذا مفطر وذاك صائم، يتكلَّم الجاهل بجهله ويُفتي الغِرُّ بغروره.
واجتماع المسلمين على هلال رمضان يحمل آثارًا من الوحدة والائتلاف والتآلف والتَّآزر؛ لأنَّ التَّوحيد في الصَّوم والإفطار يزيد في جمال العبادة بجمال الاتِّحاد فيها، والتَّقرُّب إلى الله بتقارب القلوب فيه، واتِّحادهم في الصَّوم له عدَّة مزايا، فهو يغذِّي قوَّة المسلمين الرُّوحيَّة، ويمدُّ قوّتهم الماديَّة بالتَّحابب والتَّآزر والتَّعاطف والتَّناصر، وهم في أشدِّ الحاجة إلى ذلك بعد أن ضعفت قواهم وتداعت عليهم الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، كما أنَّ الاختلاف في الصَّوم والإفطار يَذهب بجمال الشَّعيرة ويطمس أعلام الحكمة فيها.
فالواجب على المسلمين وعلى حكوماتهم الاعتناء برؤية الهلال عنايةً فائقة ببذل الجهود في توحيد كلمتهم وتعميم خبر الصَّوم والإفطار عبر الوسائل الكثيرة إلى الأماكن القريبة والبعيدة.
لكن ينبغي للمسلمين أن لا يختلفوا على أئمَّتهم وولاة أمورهم في مسألة الصَّوم والإفطار، وأن لا يكون ذلك سببًا في كراهية بعضهم بعضًا وتنافر قلوبهم، ذلك أنَّ الفقهاء اختلفوا في مسألة رؤية الهلال؟ هل رؤيته في بلد يلزم كلَّ البلاد الأخرى، أم أنَّ لكلِّ بلد رؤيته الخاصَّة؟ لاختلاف مطالع الهلال.
فإنْ كان اختلاف المسلمين ناتجًا عن اختلاف نظرتهم واجتهادهم في أمر يسوغ الاجتهاد فيه ـ بَعد بذل الوُسْع في معرفة الحقِّ والصَّواب ـ فهذا يشفع لهم اختلافهم في يوم صومهم وفطرهم؛ وذلك أنَّ للإمام حقَّ الاجتهاد وحقَّ تبليغ دخول الشَّهر من عدمه إن كان يرى أنَّ رؤية بلد لا توجب الصَّوم على بلد آخر لاختلاف المطالع، وإن كان الصَّواب في المسألة أنَّ المطالع متَّحدة، والأمَّة الإسلامية اليوم يُمكنها الاجتماع على هلال واحد صومًا وإفطارًا إذا بلغتهم الرُّؤية كما قرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية(3) وغيره، وهذا من حيث البحثُ والتَّحقيقُ، فالَّذي يمكن ترجيحه من مذاهب العلماء هو القول بتوحيد الرُّؤية ووحدة ولادة القمر فقهًا وكونًا، وهذا الَّذي يتحقَّق بتحقيقه وحدة المسلمين في صومهم وفطرهم وتآلفهم واتِّفاقهم وعدم اختلافهم، خاصَّةً بعد الَّذي نشاهده وتشاهده الأمَّة اليوم من تطوُّرات في وسائل الاتصال والإعلام، وهذا ما لم يرَ الإمام والحاكم خلافه، فإن رأى خلاف هذا القول فيُعمل بقوله ويرجع إليه؛ لأنَّ حكمه اجتهاد يرفع النِّزاع والاختلاف بين أهل البلد الواحد، ولا يجوز مخالفته طاعة لله ورسوله ولأئمَّة المسلمين وتوحيدًا لكلمتهم.
ولا ينبغي أن يكون تفرُّق المسلمين واختلافهم في يوم صومهم وفطرهم ناتجًا عن خلافات سياسيَّة ومذاهب فكريَّة واعتقادات باطلة؛ إذ أنَّ هذا الأمر دينٌ وطاعة لربِّ العالمين، لا دخل للسِّياسات والاختلافات فيه، فالأمر متعلِّق برؤية هلالٍ جعله ربُّ العالمين علامةً لوجوب الصَّوم والإفطار، فمتى ما رُؤِيَ وجب الصَّوم طاعةً لربِّ الأرض والسَّماء، وامتثالًا لأمره وتنفيذًا لحكمه وعملًا بركنٍ من أركان الإسلام الخمسة.
جعله الله تعالى شهرَ خيرٍ وبركة، وأهلَّه علينا بالأمن والإيمان والسَّلامة والإسلام، ورفع عن أمَّة الإسلام ما حلَّ بها من أزمات ونكبات، وجمعها على الخير والهدى والرَّشاد، والحمد لله ربِّ الأرض والسَّموات.
(1) «تفسير القرآن العظيم» (1 /181).
(2) رواه البخاري (1900)، ومسلم (1080).
(3) «مجموع الفتاوى» (25 /103 ـ 112).
د. رضا بوشامة